حسام والانتقام
قصة
حسام والانتقام
عندما
تُغتال العدالة على يد من أقسموا على صونها، ويتحوّل القانون إلى دُميةٍ في أيدي
أصحاب النفوذ، تغيب الحقيقة، ويغدو الحقّ غريبًا في وطنه.
رجال
الشرطة، الذين وُجدوا لحماية الناس، يصيرون صُنّاع كوابيس، لا حماةً لأحلام الأبرياء.
والقضاة، الذين كان يُنتظر منهم أن يُنطقوا بالحُكم من ميزان العدالة، يصدرون
قراراتٍ لا تنبع من ضميرٍ أو قانون، بل من هوىً أو أمرٍ من فوق. كأنهم سحرة يكتبون
مصائر البشر بأقلام مكسورة وضمائر مغلقة.
في
هذا المشهد المقلوب، تنقلب الموازين: يُدان البريء، ويُكرَّم الجاني، ويُصبح
الصمتُ فضيلةً للجبناء لا حكمةً للعقلاء.
تُحجب
شمسُ الحقيقة، ويهبط الليلُ على المدينة، لا ليمنحها سكونًا، بل ليطلق سراح
الذئاب. يَبيت الضعفاء فرائسَ، ويُصفَّق للجلاّدين، وتُخمد الأصوات التي تجرؤ على
قول "لا".
لكن
في قلب هذا الظلام، تلمع شمعةٌ صغيرة...
عائلة
الأستاذ عبد الله.
عائلة
متوسطة الحال، تسكن في أحد أحياء المدينة، وتعيش ببساطة، لكن بقيمٍ رفيعة جعلتها
محطّ احترام ومحبة من كل مَن حولها.
– الأب، عبد الله: موظف في إحدى الوزارات، معروف
بالنزاهة والاستقامة. يحترمه زملاؤه، ويقدّره رؤساؤه، لأنه لم يساوم يومًا على
ضميره.
– الأم: مُدرّسة في مدرسة ثانوية للبنات، محبوبة
من تلميذاتها، وزميلاتها يشهدن لها بالتفاني. تُخصّص وقت فراغها لإعطاء دروس
خصوصية مجانية، دعمًا للطالبات الفقيرات.
– الابن حسام (24 عامًا): طالب في سنته الخامسة
بكلية الهندسة، قسم "العمارة والتخطيط العمراني". متفوق طموح، يحلم
بإنشاء مشاريع سكنية تحلّ أزمة السكن للشباب، وتعيد للمدن وجهها الإنساني.
– الابنة الوسطى، فاتن (22 عامًا): في السنة
الثالثة بكلية الطب البشري، مخطوبة لزميلها "حكمت"، وتحلم بافتتاح عيادة
أو مستشفى مجاني للفقراء والمهمشين.
– الابنة الصغرى، ريما (20 عامًا): طالبة في كلية
التربية، تحمل حلمًا بسيطًا ونبيلًا: أن تصبح معلمة مثل والدتها، وأن تنقل العلم
والأخلاق معًا.
عائلة
مثالية في وسط مدينة يغمرها الزيف. لكن... عندما يطرق القدر باب البشر، لا يستأذن.
ذات
مساء، تنتشر رائحة كريهة من الشقة المجاورة، تهمس بها الأنوف كتحذير شيطاني.
الجيران يتبادلـون النظرات المرتابة، والقلق يخيّم.
وحين
تقتحم الشرطة المكان، يُفتَح باب الجحيم:
جثتان،
طعنات، فوضى، ودماء مبعثرة. الجار وزوجته، وقد صمتا إلى الأبد.
الشرطة
تعلن:
"عملية سرقة تحوّلت إلى جريمة قتل"...
جملة
باردة، تخلو من الحياة، لكن خلفها عائلة كاملة توضع على مشرحة الاتهام.
وهنا
تبدأ القصة...
قصة
الظلم إذا ارتدى زيّ العدالة، والبراءة إذا صارت جريمة.
قصة
حسام... حين يتحوّل المهندس إلى متّهَم، والحلم إلى كابوس، والشمعة إلى شعلة
انتقام.
تبيّن
من تقرير الطب الشرعي أن الجريمة نُفِّذت بأداة حادّة، على الأرجح "سكين
مطبخ"، إذ وُجدت على جسدي القتيل وزوجته طعنات نافذة متفرقة، بعضها في أماكن
قاتلة، ما يشير إلى أن القاتل كان يعرف جيدًا ما يفعل، أو كان في نوبة هستيرية
عمياء.
حضرت
الأدلة الجنائية بسرعة إلى مسرح الجريمة، وشرعت في رفع البصمات، وتصوير الموقع،
وجمع آثار الدم والألياف، وحتى رائحة العطور العالقة في الهواء لم تُترك دون تسجيل.
في
ذات الوقت، بدأت المباحث استجواب السكان. شقةٌ بعد شقة، جارًا تلو الآخر. لكن
اهتمامهم تركز بشكل خاص على الشقة الملاصقة... شقة الأستاذ عبد الله.
لم
يكن ذلك من قبيل المصادفة.
"الجريمة وقعت ليلًا، والشقة المجاورة
مباشرة للضحايا هي الأقرب زمنيًا ومكانيًا. من المنطقي أن نبدأ بهم أولاً"،
قالها ضابط المباحث ببرود، وكأن افتراضاته قانون بحد ذاته.
خلال
التحقيق المبدئي، لم يجد الضابط أي دليل مباشر، لكن نظرة غامضة، أو تلعثم خفيف من
عائلة حسام أثناء الاستجواب، كانا كافيين لإثارة الشك.
وبدون
أمر قضائي، وبدون أي لائحة اتهام رسمية، أصدر الضابط أوامره:
"اقتادوهم جميعًا إلى القسم. خلينا نحقق
معهم تحت ضغط، ونشوف مين فيهم بيكسَر الأول."
وبهذا،
تحوّلت العائلة المثالية في أعين الجميع، إلى "المشتبه بهم الرئيسيين"
في عيون السلطة
في
الدولة التي ترفع شعار "الشرطة في خدمة الشعب"، كانت الحقيقة في مركز
الشرطة تقول شيئًا آخر:
"الشرطة في خداع الشعب."
ما
إن دخلت عائلة الأستاذ عبد الله إلى مركز الشرطة حتى انقلب المكان من مرفقٍ عام
يُفترض أن يحمي الناس، إلى زنزانةٍ سوداء تُمارَس فيها كل فنون التعذيب والانتهاك.
رجال
المباحث، وكأنهم اعتادوا الأمر، بدأوا حفلتهم المعتادة:
صفعات،
ركلات، شتائم، إهانات، وتهديدات لا تتوقف.
كانوا
يعرفون أين يضربون، ومتى يصمتون، ومتى يتظاهرون بالشفقة.
لكن
ضابط المباحث كان مختلفًا، لم يكن يسعى للوصول إلى الحقيقة.
كان
يسعى فقط إلى "خاتمة سريعة" تُرفع على مكتبه كميدالية، توصله إلى
الترقية التي طالما حلم بها، ويُروَّج لها في الصحافة أنه "شارلوك هولمز
العصر" الذي فكّ لغز الجريمة.
نظر
في عيني الأستاذ عبد الله، وقال له ببرود كمن يُلقي بنكتة:
"اعترف إنك قتلت جارك وسرقت بيته... و
سينتهي التعذيب فوراَ"
لكن
الأستاذ عبد الله، رغم ألمه وخوفه، كان صلبًا:
"لم نرتكب شيئًا. لا علاقة لنا بالجريمة."
تكررت
المحاولات. أُرهِق الجسد. انهدّ الصوت.
الزوجة
تبكي، البنات ينتفضن رعبًا، وحسام يحاول أن يتمالك نفسه كي لا ينهار.
وفجأة...
أطلق
الضابط تهديده القذر.
اقترب
من الأستاذ عبد الله، همس له كشيطان متجسد:
"إذل لم تعترف ..... سوف اعري زوجتك و
بناتك امام افراد الشرطة و المباحث وسوف اجعلهم يغتصبونهن الآن"
تجمّد
الزمن.
كأن
الكرة الأرضية توقّفت عن الدوران، والهواء توقف عن التنفس.
لم
يعد الاستاذ عبد الله يرى، لم يعد يسمع. فقط صورة واحدة ملأت ذهنه:
زوجته
وبناته يُنتهَك شرفهن أمام عينيه.
صرخ
من أعماقه، صرخة من لا يملك خيارًا:
"أنا... أنا اللي قتلتهم وسرقتهم!"
هدأ
الضابط. ابتسم، وأصدر أمره بإخلاء سبيل الزوجة والأبناء.
أما
الأستاذ عبد الله، فبقي في الحجز، مكسورًا، لا لأنّه قاتل، بل لأنه أب. رجل خُيِّر
بين الشرف والعدالة، فلم يجد عدالة تحمي الشرف.
لكن
الكابوس لم ينتهِ هنا.
قبل
عرضه على النيابة، جلس الضابط أمامه من جديد، وقال بنبرة باردة:
"اسمعني جيداَ... لو رجعت في كلامك قدام
النيابة أو المحكمة، سوف اعتقل زوجتك وبناتك مرة اخرى و سوف افعل ما قلته لك
سابقاَ".
وصلت
القضية إلى النيابة، ولم يكلّف أحد نفسه أن يسأل عبد الله:
"هل تعرّضت للتهديد؟ هل اعترافك جاء تحت
ضغط؟ هل توجد أدلة؟"
فالبصمات
لم تتطابق.
والمسروقات
لم تُعثَر عليها.
لكن
الاعتراف، بالنسبة لهم، كان كافيًا...
كافيًا
لإغلاق الملف.
وكافيًا
لسجن المظلوم.
شريعةُ
الغاب يديرها الذئاب،
وفي
قاعة المحكمة، لم تكن هناك عدالة، بل مسرحية رديئة، يؤدي أدوارها قاضٍ أعمى،
ونيابة صمّاء، وجلّاد متعجرف.
صرخ
الأستاذ عبد الله بكل ما تبقى له من كرامة وصوت:
"أنا بريء! واللهِ لم اقتل أحداَ!"
لكن
القاضي لم يرفع بصره عن الأوراق، وقال ببرودٍ مُهين:
"اسكت، وإلا أمرتُ الشرطة بإخراسك!"
لم
يُكلَّف أحد عناء الاستماع، لم يُسأل عن البصمات، ولا عن المسروقات التي لم تُعثَر.
لم
يُطرح سؤال واحد عن الضغوط أو التهديدات.
وفي
النهاية، نطق القاضي بما يسمّونه "العدالة":
"إحالة أوراق المتهم عبد الله عطا إلى
فضيلة مفتي الجمهورية، تمهيدًا لتنفيذ حكم الإعدام."
وفي
فجرٍ كئيب، كانت شمس الوطن لا تزال نائمة،
نُفِّذ
الحكم.
أُعدم
الأستاذ عبد الله، وأُعدم معه معنى العدالة.
لفّ
السوادُ بيته.
ترمّلت
زوجته، ويتم أبناؤه دون أن يُنزع لقب "قاتل" عن اسم أبيهم.
تحطّمت
العائلة.
تكسّرت
الأحلام على صخرة العدالة المزيّفة.
الزوجة،
رغم كفاءتها، طُردت من عملها في المدرسة، فلا مكان لزوجة قاتل في التعليم.
حسام،
الطالب المتفوق الذي كان يحلم بأن يصبح أستاذًا جامعيًا، رُفض طلبه في التعيين،
فقط لأن والده "مجرم"...
في
نظر الدولة، وفي نظر الناس.
بعد
التخرج، ظل يطرق الأبواب، لكن كل باب يُغلق في وجهه.
أخيرًا،
عمل سائق تاكسي، مضطرًا لا مختارًا.
لكن
الطريق لم يكن مستقيمًا.
بدأ
بالسيجارة، وهو الذي كان يكره رائحتها،
ثم
السهرات، ثم أصدقاء السوء.
وانتهى
به الأمر يتسلل إلى البيت فجرًا، بعينين زائغتين، وأنفاس تعبق برائحة الهزيمة
والمخدرات.
حسام
تغيّر... تحوّل... لم يعُد هو.
فاتن،
شقيقته، تُركت من خطيبها،
فمن
يرتبط بابنة قاتل؟
ريما،
الصغرى، كانت تحلم أن تصبح معلمة، لكن هيئة التدريس رفضتها.
عملت
في معمل خياطة، تُسابق الآلة لا الحلم.
أما
أولئك الذين صنعوا المأساة؟
فقد
صعدوا كما يصعد السُخام في الهواء:
القاضي
أصبح رئيس المحكمة العليا.
وكيل
النيابة جلس على منصة القضاء.
ضابط
المباحث رُقِّي إلى رئيس المباحث العامة... وصار يُحاضر عن "نزاهة القانون".
لكن
التاريخ لا ينسى.
والألم
لا يشفى.
والقهر...
لا يموت، بل يتحوّل.
في
ليلة حزينة, غاب فيها القمر و بعد ان لعب لعبته القدر , حسام قدم شكواه الى رب البشر. قلبه تحول الى حجر, فكان قراره
البقاء او السفر او الإنتقام من الذين سببوا له الضرر.
"لن أغفر.. ولن أنسى..
وسأجعلكم
تشربون من الكأسِ ذاتِها!"
العدالةُ
هنا لعبةُ أطفالٍ بيدِ كبارِ المجرمين،
يُزيّفون
الأوراقَ ويشترون الشهودَ..
بينما
دمُ الأبرياءِ يُنثرُ كالملحِ على موائدِ النخبة!
لكن..
حين
يُدفعُ الإنسانُ إلى حافةِ الهاوية،
ويجدُ
أن الصرخةَ لا تُسمعُ..
والدمعةَ
لا تُبكي أحداً..
فلا
يبقى له إلا لغةٌ واحدةٌ يفهمها الذئابُ..
خاتمة:
لن
أكتب نهاية لهذه القصة، لأنها ليست مجرد قصة، بل واقع يتكرر...
وقع،
ويقع، وسيقع — ما دام هناك من يرفع شعار "القانون فوق الجميع"، بينما في
الخفاء، القانون نفسه يُدار بأيدي المجرمين.
هل
سينتقم حسام؟
هل
سيأخذ حقه بيده؟
أم
سيتركه لعدالة السماء التي لا تُخطئ؟
هذا
سؤال أتركه لك أيها القارئ...
لكن
ما نعرفه جيدًا هو أن القانون الذي لا يحمي الأبرياء، لا يستحق أن نثق به.
وأن
الإصلاح الحقيقي لا يبدأ من القوانين على الورق، بل من ضمائر من ينفذونها.
تنويه
مهم:
هذه
القصة لا تدعو إلى الانتقام أو أخذ الحق باليد.
بل
تدعو إلى إصلاح الأنظمة القضائية، والأمنية، والرقابية، في كل مكان — من العالم
العربي، إلى الغرب الذي يزعم قيادة "العدالة والديمقراطية".
فمهما
تلونت الأقنعة، المظلوم يبقى مظلومًا…
والذئاب
— سواء في زيّ قاضٍ، أو ضابط، أو وكيل نيابة — يبقون ذئابًا، ما لم يُكبح جماحهم
بقانون عادل وإنسان حرّ لا يخاف.
حالات
واقعية تؤكد أن القصة ليست خيالًا:
1. الممثلة المصرية "حبيبة":
فنانة
اتُّهمت ظلمًا بقتل زوجها، وسُجنت سنوات بعد أن انتُزعت منها الاعترافات تحت
التعذيب.
أُطلق
سراحها بعد أن ظهر القتلة الحقيقيون، لكن لا أحد عوقب من الشرطة أو القضاء.
(راجع أرشيف الصحف المصرية في التسعينات
ومقابلاتها التلفزيونية بعد الإفراج عنها).
2. القاصر الأمريكي "جورج ستني":
طفل
أسود عمره 14 عامًا، أُعدم عام 1944 في أميركا بتهمة لم يرتكبها.
اعترف
تحت الضغط، لم يُمنح محاميًا حقيقيًا، وبعد 70 عامًا، برأته المحكمة رسميًا.
رابط
ويكيبيديا:
جورج
ستني - ويكيبيديا
3. حالات أخرى:
رجل
أمريكي من أصول إفريقية سُجن 65 سنة ظلمًا رغم وجود شهود على براءته.
آلاف
العرب والمسلمين ضحايا الأحكام المسبقة بعد أحداث 11 سبتمبر.
عشرات
الأبرياء يُعذبون في بعض الدول العربية حتى يعترفوا بجرائم لم يرتكبوها.
هذه
القصص لم تُكتب للترفيه، بل للتذكير.
فكم
من عبد الله في زنزانته الآن؟
وكم
من حسام يتحول يومًا بعد يوم من مظلوم إلى قنبلة؟
والسؤال:
من المسؤول حقًا؟
مصادر
و مراجع:
الممثلة
المصرية حبيبة:
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AD%D8%A8%D9%8A%D8%A8%D8%A9_(%D9%85%D9%85%D8%AB%D9%84%D8%A9_%D9%85%D8%B5%D8%B1%D9%8A%D8%A9)
القاصر
جورج ستني:
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AC%D9%88%D8%B1%D8%AC_%D8%B3%D8%AA%D9%86%D9%8A
تعليقات